عبارة رئيسة وزراء الاحتلال غولدا مائير كانت أشبه بصفعة على الوجه حين قالت: “عندما حرق الأقصى لم أنم تلك الليلة، واعتقدت أن إسرائيل ستسحق. لكن، عندما حل الصباح، أدركت أن العرب في سبات عميق”.
فيما تبدو أقوال الثعلب الماكر الوزير الإسرائيلي السابق، يوسي بيلين، التي يؤكد فيها أن “ما يحصل اليوم من سياسة إسرائيلية جنونية في القدس تذهب باتجاه إشعال الحرم القدسي، وكأننا في سيناريو يستعيد إحراق المسجد الأقصى في مثل هذه الأيام قبل خمسين عاما”. وكأنها توقع للحدث وليس مراجعة تاريخية.
بيلين يذكرنا أيضا في مقاله بصحيفة “إسرائيل اليوم” اليمينية أن “الأحداث الجارية اليوم في القدس تعيد إلى الأذهان التنظيم اليهودي الذي تشكل في السبعينات والثمانينات، وكان أحد أهدافه هدم كل المباني الإسلامية في الحرم القدسي، من أجل التسريع ببناء هيكل سليمان الثالث”.
حريق المسجد الأقصى قبل نصف قرن في 21 آب/ أغسطس 1969، كان حادثا مدبرا ومفتعلا ومخططا له من قبل شخص يؤمن بشكل متطابق مع ما يقوله حاليا “الصهاينة المسيحيون” أو “المحافظون الجدد” في الولايات المتحدة الأمريكية.
في البداية، زعم الاحتلال أن الحريق كان بفعل تماس كهربائي، وبعد أن أثبت المهندسون العرب أنه تم بفعل فاعل، أعاد الاحتلال تقديم رواية مغايرة بأن شابا أستراليا اسمه دينيس مايكل روهان هو المسؤول عن الحريق، وأنها ستقدمه للمحاكمة.
يعتبر دينيس مايكل روهان -المولود عام 1941- مسيحي صهيوني، كان ينتمي لواحدة من الكنائس الإنجيلية المسيحية باسم “كنيسة الرب العالمية”. وكان روهان من أصحاب النزعات المشيحانية (المسيحانية) التي تؤمن بعودة المسيح، وأن شرط ذلك هو “عودة بني إسرائيل إلى أرض فلسطين” وبناء ما يسمى “الهيكل الثالث”.
ووجد روهان الفرصة سانحة أمامه لتحقيق هذه النبوءات؛ لذلك كان يردد أمام معارفه بأنه “مبعوث الرب” لهدم الأقصى، وبالتالي التحضير لبناء “الهيكل الثالث”، ومن ثم عودة المسيح.
ما أن وصل روهان إلى فلسطين المحتلة عام 1969، حتى انضم إلى إحدى “الكيبوتسات” الزراعية بالقرب من مستوطنة “نتانيا”، وكان يعبر بين الحين والآخر أمام الآخرين عن شعوره بأنه يهودي “مكلف من الإله بمهمة عظيمة”.
في تموز/ يوليو 1969 انتقل روهان إلى القدس، واستأجر غرفة في فندق “ريفولي”، وقضى جل وقته في القدس متجولا ومتفقدا للمسجد الأقصى وساحاته.
حاول روهان إشعال الحريق في المصلى القبلي عن طريق أحد مداخله في الجهة الجنوبية الشرقية، بالقرب من محراب زكريا، وذلك بالاستعانة بفتيل وبعض من البترول، إلا أنه فشل في ذلك.
في تلك الليلة، وبحسب اعترافاته لدى شرطة الاحتلال، تسلق روهان إحدى أشجار المسجد الأقصى، وبعد انقضاء صلاة العشاء وخروج الناس، وفي حوالي الساعة 11 ليلا، بدأ بإشعال الحريق، ومن ثم خرج من المكان متسلقا سور القدس جهة باب الأسباط، لأن أبواب المسجد كانت مغلقة في ذلك الوقت المتأخر من الليل.
في اليوم التالي، ذهب روهان لتفقد المصلى القبلي، فلم يجد إلا بقايا الفتيل الذي حاول إشعاله وبضعة بقع من البترول الذي لم يشتعل.
في صبيحة الخميس 21 آب/ أغسطس 1969، استيقظ روهان مبكرا، وتوجه إلى باب الأسباط، ومن هناك إلى باب الغوانمة، وتوجه إلى المصلى القبلي. أخرج روهان من حقيبته وشاحا كان قد أغرقه بالبترول، وفرشه على عتبات درجات منبر صلاح الدين، وصب فوقه المزيد من البترول والبنزين، وأشعل فيه النار بالكبريت.
خرج روهان من المصلى القبلي، وأكمل طريقه ماشيا، وما لبث أن بدأ بالركض بعد سماعه لصوت صراخ ونداء بعض المصلين. واستقل حافلة إلى كيبوتس “مشمار هشارون”، حيث اعتقل بعدها بيومين.
كانت اعترافات روهان ومحاكمته الصورية متطابقة مع أقوال الشهود، فيما استند الدفاع في المحكمة إلى ادعاء واحد، وهو أن روهان مريض نفسيا، وأنه يعاني من انفصام في الشخصية من نوع جنون العظمة، أو ما يسمى “الانفصام الارتيابي”.
بعد فحوصات لعدد من الأطباء يمثلون الادعاء والدفاع، ومنهم طبيبة روهان الشخصية من أستراليا، قررت المحكمة الإسرائيلية أن روهان غير مؤهل للمحاكمة؛ نظرا لوضعه الصحي النفسي، وأنه كان عند تنفيذ جريمته تحت تأثير أوهام وتخيلات، ولم يستطع السيطرة على نفسه، ولم ينفذ جريمته من واقع إرادته الشخصية الحرة، وفق تعبير القضاة.
وبذلك، أقرت المحكمة بأنه لا يقع عليه العقاب، وأمرت بإخلاء سبيله، وإدخاله المستشفى للعلاج.
في عام 1974، وبعد ضغوطات من العائلة، وبسبب ما قيل عن وضعه النفسي، عاد روهان إلى أستراليا، وتوفي هناك عام 1995.
وتزعم بعض الروايات أنه توفي في ذلك الوقت أثناء تلقيه للعلاج النفسي، وحتى تاريخ وفاته يؤكد البعض أنه لم يكن يعاني أيا من أعراض الجنون أو أي شيء من هذا القبيل.
وما أن وصلت أنباء الحريق إلى أهالي القدس، حتى انبرى الجميع لمحاولة إطفاء الحريق، وبدورها قامت سلطات الاحتلال بقطع المياه عن المنطقة المحيطة بالمسجد، وتعمدت سيارات الإطفاء التابعة لبلدية القدس المحتلة التأخير؛ حتى لا تشارك في إطفاء الحريق، وجاءت سيارات الإطفاء العربية من الخليل ورام الله، وساهمت في إطفاء الحريق.
وكانت أهم الأجزاء التي طالها الحريق داخل مبنى المصلى القبلي المبارك هي:
منبر “صلاح الدين الأيوبي”، الذي يعتبر قطعة نادرة مصنوعة من قطع خشبية، معشق بعضها مع بعض دون استعمال مسامير أو براغي أو أي مادة لاصقة، وهو المنبر الذي صنعه نور الدين زنكي، وحفظه على أمل أن يضعه في المسجد بعد تحريره. فلما مات قبل تحريره، قام صلاح الدين الأيوبي بنقله ووضعه في مكانه الحالي بعد تحرير المسجد من الصليبيين.
كما تضرر مسجد عمر الذي كان سقفه من الطين والجسور الخشبية، ومحراب زكريا المجاور لمسجد عمر، ومقام الأربعين المجاور لمحراب زكريا. إضافة إلى ثلاثة أروقة ممتدة من الجنوب إلى الشمال مع الأعمدة والأقواس والزخرفة وجزء من السقف الذي سقط على الأرض خلال الحريق، وعمودان رئيسان مع القوس الحجري الكبير بينهما تحت قبة المسجد، والقبة الخشبية الداخلية وزخرفتها الجبصية الملونة والمذهبة مع جميع الكتابات والنقوش النباتية والهندسية عليها.
كما تضرر المحراب الرخامي الملون، والجدار الجنوبي، وجميع التصفيح الرخامي الملون عليها، وثمان وأربعون نافذة مصنوعة من الخشب والجبص والزجاج الملون، الفريدة بصناعتها، وأسلوب الحفر المائل على الجبص؛ لمنع دخول الأشعة المباشر إلى داخل المسجد.
ولحق الحريق بجميع السجاد العجمي، ومطلع سورة الإسراء المصنوع من الفسيفساء المذهبة فوق المحراب، والجسور الخشبية المزخرفة الحاملة للقناديل والممتدة بين تيجان الأعمدة.
كان لهذا العمل الذي مس أول قبلة اتجه إليها المسلمون، وثالث المساجد التي تشد إليها الرحال، ردة فعل غاضبة في العالم الإسلامي، وقامت المظاهرات في كل مكان، وكالعادة شجب القادة العرب هذه الفعلة، وكان من تداعيات تلك الجريمة إنشاء منظمة “المؤتمر الإسلامي”، التي تضم في عضويتها جميع الدول الإسلامية، وكان الملك فيصل بن عبد العزيز هو صاحب فكرة الإنشاء.
وكان الملك الراحل الحسين بن طلال أمر بعد إحراق المسجد الأقصى بتشكيل لجنة من العلماء والمهندسين والفنانين المختصين؛ لإعادة إعمار قبة الصخرة المشرفة، والمباني الدينية الأخرى في محيطه، وتبرع بتكاليف الإعمار كاملة.
وقام مهندسون أردنيون بإعادة تصنيع “منبر صلاح الدين”، ونقله إلى المسجد الأقصى عام 2007 بنفس القياسات والتصميم والشكل والخشب والعلامات والآيات والخط العربي التي تميز بها المنبر الأصلي، فيما وضع الملك عبدالله الثاني اللوحة الزخرفية الأولى في المنبر الجديد، واستمر بدعم ترميم باقي الأجزاء التي أصابها الحريق، وإعادتها إلى ما كانت عليه في العهد الأموي الأول، وتبرع بتكاليف الإعمار كاملة.
وفي معظم الأعمال الإرهابية اليهودية والعمليات التي استهدفت قتل المصلين والاعتداء على المساجد في القدس والخليل، كانت محاكم الاحتلال تحكم بأن من قام بالجريمة مريض نفسيا.
ولا تعتبر جريمة إحراق المسجد الأقصى حدثا منفردا، وإنما هي ضمن سياق عام ورؤيا دينية، وضمن سلسلة من الإجراءات والجرائم التي قام بها الاحتلال الإسرائيلي منذ عام 1948؛ بهدف طمس الهوية الحضارية الإسلامية والعربية لمدينة القدس، وما زالت مستمرة حتى اللحظة الراهنة، وتزداد خطرا مع ارتفاع منسوب سيطرة الأحزاب الدينية والمتطرفة والمستوطنين على المشهد الإسرائيلي برمته.
*عربي 21