لا شكَّ أنَّ قتل مؤسِّس تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) وقائده على يد قوات العمليات الخاصة الأمريكية التي تعمل في سوريا سيُفاقم ضعف الحركة الإسلامية الأكثر دمويةً والأشد فتكاً في الشرق الأوسط في العصر الحديث.
ومن المؤكد أنَّ موت أبو بكر البغدادي جعل العالم مكاناً أفضل، وحقَّق العدالة لجميع النساء اللواتي اغتصبهن أفراد داعش، وجميع الصحفيين الذين قطعوا رؤوسهم، وعشرات الآلاف من السوريين والعراقيين الذين أساؤوا معاملتهم. فهنيئاً للرئيس الأمريكي دونالد ترامب الذي أمر بتنفيذ العملية، ولعملاء الاستخبارات الذين خططوا لها، وللحلفاء الذين ساعدوا في تنفيذها، وللقوات الخاصة التي نفذتها.
لكنَّ هذه القصة ما زالت بعيدةً عن الانتهاء، ويمكن أن يكون لها العديد من الآثار غير المتوقعة. ولنبدأ باستعراض أولى آثارها داخل أمريكا نفسها.
لقد كان ترامب متحمساً في مدحه لوكالات الاستخبارات الأمريكية التي عثرت على البغدادي وتعقبته حتى مخبئه في سوريا حيث فجر نفسه لتجنُّب القبض عليه. وفي مؤتمره الصحفي، واصل ترامب التحدث عن مدى تميز موظفي وكالات الاستخبارات الأمريكية.
حسناً سيدي الرئيس، هذه هي وكالات الاستخبارات نفسها التي أخبرتك بأنَّ روسيا تدخلت في الانتخابات الرئاسية الأمريكية الأخيرة سعياً لتوجيه التصويت لمصلحتك، وضد هيلاري كلينتون (وما زالت تتدخل). وحين كشفت وكالات الاستخبارات تلك الحقيقة، شكَّكت في نزاهتها وجودتها.
وهي وكالات الاستخبارات نفسها التي زرعت مخبرين داخل البيت الأبيض كشفا أنَّك أسأت استخدام سلطتك لدفع أوكرانيا إلى التدقيق في شؤون جو بايدن، مما أثار فتح تحقيقٍ يهدف إلى عزلك من منصبك.
وتلك الأجهزة الاستخباراتية التي وصفتها بالأبطال لنجاحها في تعقُّب البغدادي، هي نفسها التي وُصِفَت بـ»الدولة العميقة»، وتضم نفس المخبرين الذين وصفتهم السكرتيرة الصحفية للبيت الأبيض ستيفاني غريشام بأنهم «بيروقراطيون متطرفون غير منتخبين يشنون حرباً على الدستور».
فشكراً لك يا سيد ترامب على توضيح هذا الالتباس. إذ أصبحنا نعرف الآن أنَّ أجهزة الاستخبارات التي تؤدي دوراً بطولياً في حمايتنا من أولئك الذين يريدون مهاجمة ديمقراطيتنا الدستورية من الخارج هي نفسها الأجهزة البطولية التي وقفت لحماية ديمقراطيتنا الدستورية من الداخل. وعلى عكسك يا سيد ترامب، لقد أخذت قسمها الذي تعهَّدت فيه بحمايتنا من الخطرين الداخلي والخارجي على محمل الجد.
أمَّا بالنسبة لمستقبل الشرق الأوسط، فدعونا لا ننسى أنَّ تنظيم داعش هو منظمة جهادية إسلامية سُنيِّة ظهرت بعدما قضى الرئيس السابق باراك أوباما على أسامة بن لادن، صاحب لقب أسوأ شخصٍ في العالم سابقاً. لكنَّ موت البغدادي -الذي يعد أمراً جيداً للغاية في حد ذاته- ليس نهايةً لمشكلاتنا في الشرق الأوسط والمشكلات الواردة إلينا منه.
والجهود التي بذلها ترامب للتقليل من أهمية نجاح أوباما في قتل بن لادن -في الوقت الذي يعزِّز فيه من أهمية قتل البغدادي واصفاً إيَّاه بأنَّه مفتاحٌ لخلق سلام ما بعده سلام- لا تظهر إلَّا مدى جهله بالمنطقة.
يُذكَر أنَّ تنظيم داعش برز في عام 2014، باعتباره نتاجاً لثلاث فصائل أو حركات فضفاضة، كما أشرت في مقالة رأي كتبتها في عام 2015.
كان الفصيل الأول يضم المتطوعين الأجانب، الذين كان بعضهم جهاديين متشددين، لكنَّ الكثير منهم كانوا مجرد شبانٍ فاشلين منبوذين باحثين عن مغامرةٍ جديدة لم يسبق لهم تولي سلطةٍ أو شغل وظيفةٍ أو الإمساك بيد فتاة انضموا إلى داعش للحصول على هذه الأشياء الثلاثة. إذ كان تنظيم داعش يعرض رواتب مجزية وسلطةً وتفريجاً جنسياً عن الرجال والنساء القادمين من مجتمعاتٍ أو ثقافات منغلقة لم يكن فيها أيٌّ من ذلك متاحاً.
أمَّا الفصيل الثاني -الذي كان يُمثِّل دماغ التنظيم وعموده الفقري العسكري- فكان يتألف من ضباطٍ سابقين في الجيش البعثي السُنِّي وأفراد عراقيين سُنَّة وقبائل سنية عراقية قدَّموا لداعش دعماً سلبياً. وتجدر الإشارة هنا إلى أنَّ السُنَّة العراقيين يُشكِّلون حوالي ثلث سكان العراق. وقد حكموا العراق على مرِّ عدة أجيال، وكان الكثير من السُنَّة في الجيش العراقي يشعرون بالغضب والإهانة والإحباط بسبب الطريقة التي قلب بها الغزو الأمريكي للعراق ذلك النظام وأوصل الأغلبية الشيعية العراقية إلى رأس السلطة.
وكذلك حصل تنظيم داعش على الكثير من الدعم السلبي من المواطنين السنَّة العراقيين العاديين بعدما استغلت إيران والشيعة المؤيدين لإيران الذين كانوا يتولون السلطة في بغداد، بقيادة رئيس الوزراء نوري المالكي -الذي عيَّنته إدارة الرئيس الأسبق بوش- سلطتهم لإساءة معاملة السنة العراقيين ومنعهم من تولي المناصب وإبعادهم عن الجيش.
وبالنسبة للكثيرين من القرويين السنة العراقيين الذين كانوا خاضعين لسيطرة داعش، كان تنظيم داعش أقل سوءاً من الوحشية والتمييز اللذين تعرَّضها لهما في عهد الحكومة العراقية الموالية لإيران التي كان يقودها الشيعة آنذاك. وإذا بحثتم في محرك جوجل عن Iraqi Shiite militias and power drills، ستجدون أنَّ تنظيم داعش ليس أول من ابتكر التعذيب في العراق.
ولحسن الحظ، توصلنا نحن والعراقيون إلى حلٍّ لتلك المعضلة في النهاية، وصار العراق لديه حكومة أفضل بكثير في الوقت الراهن. لكنَّ الولايات المتحدة تواصل تكرار نفس الخطأ في الشرق الأوسط: المبالغة في تقدير قوة الأيديولوجية الدينية والاستهانة بتأثير الحكم السيئ.
وكما أشارت سارة تشايس، التي عملت فترةً طويلة في أفغانستان وكتبت كتاباً مهماً بعنوان Thieves of State: Why Corruption Threatens Global Security، إلى تلك المشكلة حين قالت: «لا شيء يغذي التطرف أكثر من الفساد والظلم الواضحين» اللذين يحكم بهما حلفاء أمريكا في الشرق الأوسط شعوبهم يومياً.
أمَّا الفصيل الثالث من داعش، فكان يتألف من أيديولوجيين دينيين حقيقيين بقيادة البغدادي. إذ كان لديهم تفسيرٌ مروِّع للإسلام، لكنَّ صدى ذلك التفسير ما كان لينتشر على نطاقٍ واسع لولا الفصيلان المذكوران أعلاه.
وهذا يعيدنا إلى ترامب وسياسته الخارجية. فترامب لا يلتقي حاكماً مستبداً لا يعجبه أبداً. وهو يغفل حقيقة أنَّ البغدادي القادم ربما يكون قابعاً الآن في أحد السجون في مصر، التي يحكمها الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي، الذي وصفه ترامب بأنَّه «الديكتاتور المفضل» لديه، والذي لا يقتصر قمعه العنيف على الجهاديين، بل يشمل صحفيين وناشطين سياسيين ليبراليين سلميين. وجريمتهم الوحيدة هي أنهم يريدون أن يكون لهم رأي في مستقبل بلدهم، وأن يساعدوا في تهيئة بيئة يمكنهم فيها الوصول إلى أفضل نسخةٍ من أنفسهم، حتى لا يضطرون إلى البحث عن الكرامة أو القوة أو الوظيفة أو الإمساك بأيدي الفتيات في الجماعات المتطرفة مثل داعش.
ومن ثَمَّ، فحين يصف ترامب البغدادي بأنَّه ضحيته المفضلة ويصف السيسي بأنَّه ديكتاتوره المفضل، فإنَّه لا يفعل شيئاً سوى السير في مكانه. لذا لن نصل إلى أي هدفٍ في الواقع.
وهذا يعيدني إلى سوريا، حيث دعم السُنَّة السوريون تنظيم داعش لنفس السبب الذي دفع السُنَّة العراقيين إلى دعمه. إذ تتعاون إيران وميليشيا حزب الله الموالية لإيران والنظام السوري الشيعي العلوي بقيادة بشار الأسد وروسيا لإنشاء حكومة أقلية شيعية موالية لإيران في دمشق. وبالطبع أعطوا ترامب تصريحاً مجانياً لقتل البغدادي؛ فموته يجعل حكم سوريا دون تقاسم السلطة مع السُنَّة أسهل بكثير. ولكن ما دام ذلك الوضع مستمراً، فلن يتحقق الاستقرار هناك.
وأخيراً، واصل ترامب الحديث في مؤتمره الصحفي عن أنَّه قرَّر، بحكمته اللامتناهية، إبقاء القوات الأمريكية في سوريا لحماية حقول النفط هناك، كي تستطيع شركات النفط الأمريكية استغلالها إذا أرادت. بل وتباهى بأننا كان ينبغي أن نستولي على جميع حقول النفط العراقية لدفع ثمن حرب العراق، مع أنَّه كان يعارضها.
ويمكن القول مرةً أخرى إنَّ هذا كلام مثير للاشمئزاز، ويُعد بيئةً خصبة للمشكلات في المستقبل. فإذا كان ينبغي للولايات المتحدة أن تضطلع بأي دورٍ في الشرق الأوسط في الوقت الحالي، يجب ألَّا يكون دورها حماية آبار النفط، بل حماية «جُزُر الحياة الكريمة» ودعمها.
وأقصد هنا بعض الأماكن مثل كردستان العراق وسوريا، والأردن والإمارات العربية المتحدة وعمان ولبنان والديمقراطيات الضعيفة في تونس وبغداد. فلا تُعَد أيٌّ من هذه الدول ديمقراطيات متقدمة؛ وسلطنة عمان والأردن والإمارات قائمة على النظام الملكي. لكنَّ الوصول إلى الكمال ليس خياراً متاحاً في الشرق الأوسط في الوقت الراهن. وهذه الدول تتبنى نسخاً أكثر اعتدالاً من الإسلام والتسامح الديني، فهي تعمل على تمكين نسائها وتُشجِّع التعليم الحديث.
وتعد هذه الدول ترياقاتٍ ضرورية، وإن كانت غير كافية، لحل مشكلة التنظيمات المتطرفة. لذا فهي تستحق الحفاظ على آمالها في أن تتطور يوماً ما وتصبح أماكن أفضل لجميع شعوبها. ولعل أبرز مثالٍ على ذلك هو الاحتجاجات المُطالِبة بالديمقراطية في لبنان؛ فانظروا إليها وسترون طموحات الشباب.
وقد يكون ترامب هو الوحيد الذي يتباهي بهزيمة داعش ويظن أنَّ كل ما يجب فعله الآن هو حماية آبار النفط والحكام المستبدين المفضلين لأمريكا في الشرق الأوسط، وليس آبار الحياة الكريمة.
كاتب صحفي