يحتفل لبنان والصين في التاسع من تشرين الثاني/ نوفمبر هذا العام بالذكرى الخمسين لإقامة العلاقات الدبلوماسيّة بين البلدين، والاحتفال بهذه الذكرى يضع العلاقات بين البلدين تحت مجهر البحث عن الحوافز الّتي تدفع هذه العلاقات إلى الأمام، والمعوّقات الّتي تقف في وجه تطوير هذه العلاقات والسير بها نحو المأمول لدى المهتمين بمصلحة البلدين.
صحيح أنّ الصين دولة عظيمة وضخمة، وعدد سكّانها يكاد يبلغ المليار ونصف المليار نسمة، فيما لبنان دولة صغرى بالمساحة وعدد السكّان، ولكن هناك الكثير من المقوّمات لدى لبنان، تجعله محط اهتمام الصين، ورافعة للمصالح الصينيّة، سواء على مستوى منطقة غرب آسيا وشمال إفريقيا، أو على مستوى أوروبا بشكل عام.
وانطلاقًا من عمق التاريخ، حيث كانت القوافل تسير على طريق الحرير القديم من الصين إلى ثغور البحر المتوسّط ثمّ إلى أوروبا وبالعكس، فإنّ الموانئ اللبنانيّة كانت بنظر الصينيين ممرّاً أساسيّاً للتواصل البرّي والبحري بين أقصى شرق آسيا وأقصى غربها، مروراً بوسط القارّة ووصولاً إلى المدن الأوروبيّة والإفريقيّة المنتشرة على سواحل المتوسّط، أو تلك الأبعد على سواحل أوروبا الغربيّة.
ومع إطلاق الصين لطريق الحرير الجديد، من خلال مبادرة الحزام والطريق الّتي أعلن عنها الرئيس شي جينبينغ عام 2013، يعود لبنان للعب دوره كصلة وصل بين الشرق والغرب، وبين الصين وأنحاء العالم، سواء من خلال موقعه الجغرافي، أو من خلال الإمكانات البشريّة الّتي يملكها، والّتي تؤهّل أبناءه للعب دور الوسيط والتاجر والمصرفي والمثقّف والمحاور والمترجم، وغير ذلك من الأدوار التي برع اللّبنانيّون بتأديتها بإمتياز كبير، وقد عبّر الصينيون في أكثر من مناسبة وخلال أكثر من لقاء مع النخب اللبنانية عن اهتمامهم بهذا الدور الذي يلعبه لبنان وعبّروا عن رغبة الصين الحقيقية بالاستفادة من هذه الإمكانيات كونها تمثل قيمة مضافة إلى الإنتاج الصيني، وتفتح آفاقاً أوسع للترويج للثقافة والصناعة والزراعة الصينية في أنحاء العالم.
بالرغم من المشاكل الكبرى التي يعاني منها لبنان على مختلف المستويات، فإنّ هذا البلد يبقى منارة علمية وثقافية وتجارية ومالية استثنائية على مستوى المنطقة والعالم. والصين، التي تعرف قيادتها كيف تغتنم الفرص، ليست مقصرة في السعي للاستفادة من الإمكانات اللبنانية في مختلف المجالات .
وبقدر ما إن لبنان يحتاج إلى الاستثمارات الصينية الحيوية لإحياء اقتصاده وبناء بنيته التحتية المنهارة، فإنّ الصين تستفيد من موقع لبنان ومن دوره ومن إمكاناته، ما يجعل العمل لتعزيز العلاقات بين الطرفين مسألة حيوية وضرورية من قبل كلّ قادرٍ على القيام بهذا الدور.
*الآفــــاق
إنّ التوجه الصيني نحو لبنان يتخطى حدود الرغبة ليصل إلى حد انتظار الموافقة على انخراط لبنان في علاقة حقيقية وعملية مع الصين. أمّا في لبنان، فإنّ العلاقة مع الصين لم تعد مجرد خيار يمكن المضيّ به أو التغاضي عنه، وإنّما وصل الأمر في ظل الظروف الصعبة التي يعيشها البلد إلى حد القدر الذي لا مفرّ منه، مع غياب الخيارات الأخرى نتيجة ظروف ذاتية وموضوعية مختلفة وأهمها الحصار الغربي القاتل والتضييق الشديد من بعض الدول العربية.
لبنان قادرٌ على الاستفادة من الصين في مجالات عديدة. فالصين قادرةٌ على استثمار مبالغ ضخمة في مشاريع أساسية في لبنان، أهمها مشاريع البنى التحتية كالطرقات والجسور والأنفاق والسكك الحديدية والكهرباء والتنقيب عن النفط وبناء المصافي وتطوير المرافئ وتأهيلها لتلعب دورها المطلوب في مبادرة الحزام والطريق، والمساهمة في انشاء صناعات خفيفة ومتوسطة تتناسب مع حاجات لبنان وقدراته، وحتى المساهمة في تطوير الزراعة ورفع مستوى انتاجيتها، وغير ذلك من المشاريع الهامة.
كما يمكن للصين ان تدمج لبنان في إطار مشروع إعادة إعمار سوريا الذي سيكون لبكين دور كبير فيه، وكذلك استخدام لبنان كممر الى الداخل الشامي والعربي، مع ما يتطلبه ذلك من تطوير لخطوط المواصلات والتواصل.
وفي عالم التكنولوجيا العالية، يمكن للبنان ـ بمساعدة الصين ـ أن يكون "وادي سيليكون" على مستوى عالٍ، نظرا للطاقات العلمية والشبابية التي يتمتع بها.
كل هذا وغيره من آفاق التطوير التي يمكن للبنان أن يعيشها بمساهمة صينية مباشرة قد يتحقق دون أي تكلفة على البلد، وإنما من خلال استثمارات صينية مباشرة تستردها الصين من خلال نظام "بي أو تي" أو من خلال طرق شراكة أخرى يمكن الاتفاق عليها بين الطرفين وبما يحققالفائدة المشتركة لهما.
*العقبات
إلا أن كل هذه الآفاق المفتوحة تسدُها عقبات اساسية وخطيرة تعترض طريق التعاون بين البلدين الصديقين. وهي عقبات لبنانية المنشأ بشكل أساسي. ويمكن تبويب هذه العقبات على الشكل التالي:
عدم وجود حماسة لدى المسؤولين اللبنانيين، والمتحكمين بالقرار في البلد، للتعاون مع الصين، وهذا ناتج عن شعور بالانتماء إلى الغرب وإحساس بالولاء للمنظومة الغربية، مع وجود نوع من الاستعلاء باتجاه الشرق، الأمر الذي يضع قيودًا نفسية أمام توجه هؤلاء المسؤولين شرقًا، ولا سيما باتجاه الصين.
وهذا الشعور لا يقتصر ـ للأسف ـ على فئة من المسؤولين اللبنانيين، أو على توجه سياسي معين، وإنما يتوزع على متنفذين في مختلف التوجهات والتيارات، ويؤدي إلى كبح الاندفاعة الضرورية للبنان نحو تحقيق مصالحه الحقيقية من خلال الاستفادة من فرصة التعاون مع الصين.
يضاف إلى عدم إيمان بعض المسؤولين اللبنانيين بأهمية التعاون مع الصين ما يمكن وصفه بالخوف من العقوبات الغربية ـ لا سيما الأميركية ـ التي يمكن أن تفرض على لبنان بشكل عام، وعليهم بشكل شخصي، في حال اتخذوا قرار التوجه نحو الشرق ونحو الصين تحديداً. وموضوع العقوبات ليس أمراً متوهماً أو مجرد خوف، وإنما هو في الحقيقة سيف مسلط على رقاب اللبنانيين، يعانون منه في أكثر من مجال، بالرغم من أنّ الولايات المتحدة تسمح لبعض حلفائها في الخليج أو شمال أفريقيا مثلاً بمدّ حبال التواصل مع الصين ولو بقدر محدّد، فيما هذا الأمر ممنوع قطعياً على اللبنانيين تحت طائلة تشديد الحصار وتكثيف العقوبات.
المسألة الثالثة التي تقف بوجه التعاون الصيني اللبناني هي مسألة اختلاف الثقافة في التعاطي مع الأعمال بين الإدارتين اللبنانية والصينية، فالمسؤولون اللبنانيون الذين يقررون في مجال المشاريع معتادون على الحصول على إكراميات وعمولات وحصص وهدايا لحسابهم الخاص إزاء الموافقة على المشاريع التي ستنفذ في لبنان، في حين أن هذا الأمر مرفوض بشكل قاطع عند المسؤولين الصينيين، وهذا الأمر يضع حاجزاً كبيراً أمام دخول المشاريع الصينية إلى لبنان.
_وتبقى مسألة مهمة تتعلق بقوانين حماية الاستثمارات الأجنبية التي تطلب الصين وجودها في الدول التي تنوي الاستثمار فيها، في حين أنّ لبنان لم ينجز العملية التشريعية المطلوبة لإقرار القوانين اللازمة في هذا المجال.
إنّ هذه العقبات كبيرة وخطيرة، ولكنها لا تقطع الطريق بشكل نهائي أمام الوصول إلى تفاهمات لبنانية صينية للتعاون المثمر، على طريق تطبيق الفلسفة الصينية التي تدعو إلى بناء مجتمع المصير المشترك للبشرية وتحكيم قاعدة المنفعة المتبادلة، وكذلك القاعدة اللبنانية التي تتحدث عن بناء صداقات مع كل دول العالم ما عدا العدو الإسرائيلي. ولعلّ ذكرى قيام العلاقات الدبلوماسية بين البلدين تكون مناسبة حقيقية لبدء مسار تعاوني حقيقي فيه الفائدة والمنفعة للبنان وللصين، وللمنطقة وللعالم ككل.
الكاتب :محمود ريّا