۶۰۶مشاهدات

«محرقة النساء في كردستان» تلتهم فتاة كل 20 ساعة

سامان نوح و موفق محمد
رمز الخبر: ۶۲۸۴
تأريخ النشر: 26 November 2011
شبکة تابناک الأخبارية: وسط رائحة «الشواء البشري» التي تكاد تطغى على المكان وتتسلل، ببطء، إلى باقي ردهات المستشفى، كانت الفتاة الكردية نادين التي حاولت الانتحار حرقاً قبل ساعات فقط، تردد بما يشبه الهستيريا «لن أغفر له أبداً».

نادين التي انصهرت ملامح وجهها وغابت وسط اللفافات الطبية البيضاء، كانت تتحدث عن زوجها (س. ع) الذي اتهمته بدفعها لمحاولة الانتحار حرقاً، سعياً للخلاص من حياة زوجية مليئة بـ «الذل والفقر والحرمان والاضطهاد»، امتدت نحو 17 عاماً.

اتهامات نادين التي أسرّت بها لكاتبي التحقيق، استبدلت في محاضر التحقيق بعبارة «حادث عرضي».

لم يكن ضابط التحقيق الذي خرج قبل وصولنا بدقائق هو الذي غيّر أقوال نادين، فهي بنفسها أبلغته أن نيران المدفأة النفطية تسللت إلى ثيابها ولم تتمكن من إطفائها قبل أن تلتهم 90 في المئة من جسدها.

نادين فعلت ذلك كما تقول، حرصاً على تجنيب عائلتها وعائلة زوجها «نزاعات عائلية» لا جدوى منها. وأيضاً، هذا ما يعنيها بالدرجة الأساس، كي لا يضطر أطفالها الخمسة مستقبلاً إلى مواجهة علامات استفهام كثيرة عن سر انتحار والدتهم.

تتذكر نادين أنها لم تكن تستطيع السيطرة على ارتجافة يدها، كلما همت بسكب النفط الأبيض على جسدها لإحراقه بعود الثقاب المشتعل في أصابع اليد الأخرى. تراجعت نادين ثلاث مرات عن إشعال جسدها بالنار خلال «ساعات المحنة» التي امتدت من الـ12 ليلاً حتى الـ5 صباحاً، وكانت تتخيل في كل مرة كيف ستنهش النار جسدها قطعة قطعة ولا تتركها إلا جثة متفحمة.

تمكنت نادين في محاولتها الرابعة من إشعال جسدها بالنار، فعلت ذلك حين قارنت معاناتها في «حياة البؤس» التي تعيشها، بأوجاع الحروق التي كانت ستزول بمجرد أن يتوقف قلبها عن النبض.

لم تمت نادين من فورها كما كانت تتوقع، بل رحلت بصمت، بعد ساعات من اللقاء الذي أجراه معها كاتبا التحقيق. فيما سيكون مقدراً على الفتاة الثلاثينية جيهان التي قابلناها في الغرفة المجاورة لغرفة نادين، أن تعيش ما تبقى من حياتها بوجه وجسد مشوهين.

جيهان التي نجت من الموت بأعجوبة لأن النار التهمت 45 في المئة من جسدها فقط، أبلغت ضابط التحقيق أن احتراقها لم يكن انتحاراً بل كان حادثاً عرضيا «ليس إلا»، وعلى رغم أنها تستغرب كيف أن الضابط كان يقود التحقيق باتجاه تسجيل الحادث على أنه «حادث عرضي»، لكنها تعترف في الوقت ذاته بأنها كانت في حاجة فعلاً ألى أن يتواطأ معها الضابط ويوافق على توثيق روايتها «المليئة بالأكاذيب المتناقضة».

أخفت جيهان عن ضابط التحقيق، وعن كاتبي التحقيق أيضاً، حقيقة الأسباب التي دفعتها إلى الانتحار حرقاً، لكنها لم تنكر أنها كانت ستكشف الحقيقة كاملة لو لم يؤكد لها الأطباء بأنها ستنجو من الموت بسبب اقتصار الحروق على الأجزاء الخارجية من جسدها فقط.

تعترف جيهان مجدداً أن الخوف من التعرض للأذى وربما القتل على أيدي أفراد العائلة سيكون خياراً سيئاً لكل فتاة تنجو من الانتحار حرقاً وتتركها الدولة تواجه مصيرها منفردة.

يروي الباحث عبدالجبار زيباري. كيف أن ثلاثاً من الفتيات اللواتي نجون من محاولات الاحتراق، قتلن فيما بعد في ظروف غامضة. إحداهن، وهي كوران ذات الـ17 عاماً، سقطت قبل نحو أربعة أعوام من سطح المنزل «في شكل عرضي» وهي تحمل في جسدها بضعة طعنات بآلة حادة.

كوران وجيهان ونادين، وثماني منتحرات أخريات التقاهن كاتبا التحقيق وتوفي أربع منهن بعد ساعات من إجراء اللقاءات، تشبه قصصهن إلى حد بعيد قصص 14 ألف فتاة احترقت (أو أحرقت) خلال الأعوام 1991 - 2010 في مدن كردستان العراق الثلاث (أربيل والسليمانية ودهوك).

هؤلاء النسوة كن ضحايا ظاهرة الانتحار حرقاً التي يقول خبراء اجتماع، وناشطون مدنيون، وجهات رسمية معلنة أو فضلت عدم الكشف عن هوياتها، إن معدلاتها ما زالت ترتفع في شكل كبير بسبب عجز المؤسسات الحكومية والدينية والعشائرية والمدنية عن إيقافها، لتصبح هذه الظاهرة التي عرفت بـ «محرقة النساء» واحدة من أبرز المظاهر المأسوية التي ارتبطت بنساء منطقة كردستان العراق خلال الـ20 سنة الأخيرة.

فتاة كل 20 ساعة

يحيل الباحث أوات محمد، اختيار نساء كردستان العراق الانتحار حرقاً كوسيلة للخلاص من الحياة، إلى تأثير الديانة الزرادشتية التي كانت سائدة في المنطقة قبل ظهور الإسلام، فالنار في هذه الديانة تطهّر الإنسان من كل الذنوب التي اقترفها طوال حياته. بالمقابل، هناك باحثون يعتقدون أن شيوع ظاهرة الانتحار حرقاً بين نساء كردستان سببه في الغالب، قرب مصادر النيران من يد المرأة أكثر من باقي وسائل الانتحار التي قد تتطلب تحضيرات، مثل الموت شنقاً أو الانتحار برصاصة بندقية.

وسواء ارتبط الانتحار حرقاً بطقوس دينية قديمة أم بسهولة الوصول إلى مصادر النيران، فإن الأرقام التي جمعها كاتبا التحقيق وفقاً لإحصاءات رسمية وغير رسمية، تشير إلى أن ظاهرة الانتحار حرقاً في كردستان العراق تتصاعد عاماً بعد عام على رغم كل التحذيرات الدولية والمحلية التي أطلقت للحد من هذه الظاهرة.

فمقابل 39 حالة انتحار حرقاً عام 1991، سجلت دوائر الشرطة في عموم كردستان العراق 441 حالة احتراق عام 2010. أي بزيادة مقدارها نحو 1100 في المئة، وبمعدل فتاة منتحرة كل 20 ساعة.

حتــى منتصف هذا العام (2011)، وصلت نسبة المنتحرات حرقاً إلى رقم يزيد قليلاً عن نسبة المنتحرات في العام الماضي. كما تقول مسؤولة في مديرية مكافحة العنف ضد المرأة رفضت الكشف عن الرقم الحقيقي بسبب اعتقادها أن نشر الأرقام سيوقع الجهات المعنية في «أزمة جديدة» مع الإعلام ومنظمات المجتمع المدني.

الإحصـــاءات المثبتة في هذا التحقيق، لا تبين عدد النساء اللواتي قتلن على أيدي أفراد من العائلة أو أجبرن على حرق أنفسهن على خلفية قضايا الشرف. ولا تشمـــل هــــذه الإحصــاءات أيضاً، المنتحرات اللواتي تم دفنهن في المقابر الصغيرة على سفوح الجبال المحيطة بقرى كردستان من دون إبلاغ السلطات المعنية.

غياب الإحصاءات الرسمية الموثقة، وتخبط المنظمات المدنية في تحديد عدد المنتحرات، وتجنب غالبية مراكز البحوث المختصة في كردستان العراق متابعة هذا الملف بموضوعية، أضاعت على المعنيين بملف الانتحار حرقاً قاعدة معلوماتية مهمة كان يمكن من خلالها تشخيص الظاهرة وتحديد طرق الحد منها، كما يقول الباحث زيباري.

حوادث «عرضية»

يعتقد الباحث عز الدين حافظ أن «غياب الحقائق» عن سجلات الشرطة واقتصار غالبية ملفات الانتحار حرقاً على عبارة «حادث عرضي»، يجعل من المستحيل على أي باحث أن يفهم ما الذي يجرى بالضبط في كردستان العراق. فالكثير من «الحوادث العرضية» لم تكن مقنعة حتى بالنسبة إلى بعض ضباط التحقيق الذين تحدث معهم الباحث حافظ في وقت سابق وأبلغوه بأنهم كانوا يسجلون إفادات المنتحرات بصرف النظر عما إذا كانت التفاصيل منطقية أم لا، فالنتيجة التي كان يتوقعها هؤلاء من الغوص في العمق في مثل هذه القضايا، هو الدخول في مشاكل عشائرية هم في غنى عنها.

الشيء نفسه، أشار إليه ضابط تحقيق اكتشف من خلال عشرات الحالات التي وثقها، أن النساء المحترقات يعمدن في الغالب إلى كتم الحقيقة لتجنيب عوائلهن المشاكل مع عائلة الزوج. حاول الضابط في كثير من المرات الضغط على محاوِلات الانتحار لانتزاع قصة حقيقية تبين سبب إقدامهن على الانتحار، لكن جهوده كانت بلا جدوى.

سوران التي وافق أحد ضباط التحقيق على تسجيل روايتها غير المقنعة حول كيفية تعرضها للاحتراق، خمنت أن ضباط التحقيق يريدون أن يسجلوا إفادات لا تعرض أي شخص للمساءلة، لذلك لا يلحون في طرح الأسئلة ولا يشككون بأي معلومة تذكرها المنتحرة.

تقول سوران إن هذا ما حدث معها، تماماً مثلما حدث مع بقية محاولات الانتحار اللواتي قابلتهن طيلة فترة بقائها في المستشفى.

الفتاة بروين هي الأخرى قالت إنها غيرت أقوالها أمام المحققين، وإنهم تقبلوا منها رواية «مفبركة» عن تعرضها للاحتراق أثناء «الطهو» من دون أن يطرحوا المزيد من الأسئلة. خرجت بروين فيما بعد من المستشفى بجسد مشوه، لكنها أسرّت لكاتبي التحقيق «لو شعرت بأنني لن أنجو من الموت وسأعود إلى المنزل ذاته، لكنت قلت الحقيقة كاملة».

«تواطؤ» مع الأعراف؟

تغيير أقوال المنتحرات أمام المحققين كان السمة التي ميزت معظم القصص التي تابعها كاتبا التحقيق، وهو ما يحيله الباحث عز الدين حافظ إلى الخوف من رد فعل العائلة التي قد تؤدي إلى تعقيد وضع المنتحرة الناجية، لينتهي الأمر ربما بـ «نتائج أسوأ من الموت».

بخلاف الباحث حافظ، لا تثق الباحثة الاجتماعية سوسن قادر كثيراً بفكرة أن غياب الحقائق عن سجلات المحققين في قضايا الانتحار حرقاً، سببه الوحيد هو حرص المنتحرة وعائلتها على كتمان المشاكل العائلية التي أدت إلى محاولة الانتحار، فهي تعتقد أن هناك أكثر من علامة استفهام تلف طريقة تعامل السلطات التنفيذية والقضائية مع ملف المنتحرات حرقاً.

قادر تعتقد أن هناك تغاضياً عما يحدث. لكن الضابط المختص بالتعامل مع مشاكل النساء في مديرية العنف ضد المرأة شيلموا عبدالقادر، ينفي «في شكل قاطع» إمكانية حصول أي تهاون في قضايا الانتحار حرقاً، فالمديرية «تحرص على تطبيق التعليمات» وتصر على معرفة الحقائق التي باتت تتكشف الآن أكثر مما كان سائداً في السنوات الماضية حين كانت المرأة تقتل وترمى في النهر أو تحرق جثتها ثم يقيد الحادث ضد مجهول.

رفض عبدالقادر إعطاء كاتبي التحقيق أية تفاصيل عن الحقائق التي كشفتها المديرية باعتبارها تحقيقات خاصة بها، لكنه يقر بأن أكثر من 80 في المئة من المنتحرات يتجنبن قول الحقيقة خوفاً من الفضيحة أو من تعرض عوائلهن للمساءلة القانونية.

يبرر عبدالقادر موافقة المحققين أحياناً على تمرير إفادات «غير معقولة» لبعض المنتحرات، بأن المديرية ليس في وسعها دائماً «إجبارهن على قول الحقيقة».

يعتبر حافظ أن البيئة المحافظة التي تتحدّر منها غالبية المحققين تجعلهم يفكرون ألف مرة قبل تسجيل أية معلومات تضر بسمعة العائلة داخل الوسط الكردستاني المحافظ. ويقدم قصة الفتاة دلفين باعتبارها نموذجاً لتواطؤ المحققين مع ما تقره الأعراف السائدة حتى لو كان «على حساب الحق والعدل». فدلفين التي غيرت أقوالها حين استجوبتها السلطات المختصة، تعرضت وفق الأوراق الرسمية إلى «حادثة احتراق بالمدفأة النفطية»، أما أصل الحكاية فهي أنها أحرقت نفسها بعد أن حاول شقيق زوجها الاعتداء عليها أثناء غياب زوجها.

كتمان دلفين «فضيحة أخي الزوج» لم يعفها من عقوبة زوجها الذي طلّقها على الفور وأعادها إلى أهلها، كامرأة مطلقة كل ما بقي لها «جسد مشوه» والكثير من علامات الاستفهام التي تحيط بحياتها.

الأسرة... بيت الداء

يعتقد الخبراء والباحثون الذين وثقوا حالات الانتحار حرقاً في كردستان العراق، أن العنف الأسري في كل أشكاله، والتمايز الطبقي، وتساهل السلطات مع الممارسات العشائرية القاسية تجاه المرأة مثل ظاهرة غسل العار وغيرها، وعدم كفاية القوانين التي تعالج قضايا العنف ضد المرأة، فضلاً عن اتساع ظاهرة الزواج المبكر، وتخلي الكثير من رجال الدين والمؤسسات الثقافية والمدنية في التثقيف المضاد لظاهرة الانتحار حرقاً، هي الأسباب الرئيسة لتزايد أعداد المنتحرات في منطقة كردستان العراق على رغم كل ما شهدته المنطقة من مظاهر التطور الثقافي والاجتماعي والعمراني خلال الأعوام الماضية.

تعتقد البرلمانية السابقة والناشطة في شؤون المرأة بخشان زنكنة، أن العنف الأسري هو السبب الرئيس لشيوع ظاهرة الانتحار حرقاً، فالمرأة التي تتعرض للعنف لمجرد أنها «أنثى» تعاني في الغالب من «ذات مهشمة»، لا تساعدها على الصمود في وجه الضغوط العائلية. فيما تقدم الناشطة المدنية جيمن محمد صالح التي تتابع منذ سنوات قضايا العنف ضد المرأة في كردستان، أطروحة مطابقة لما تذهب إليه زنكنة، فظاهرة الانتحار حرقاً كما ترى صالح سببها الرئيس هو «العنف والاضطهاد الاجتماعي والإحساس بالظلم والوحدة».

غالبية النساء اللواتي التقتهن صالح اشتكت من الضغوطات المجتمعية التي تتعرض لها مثل الضرب العنيف أو الإذلال.

الابنة الكبري للمنتحرة نادين، نياز ذات الـ15 عاماً، تصف المعاناة التي قاستها والدتها على يد والدها (س. ع) بالمأسوية، فقد كان يبالغ في إهانتها والتقليل من شأنها حتى أمام الآخرين، وغالباً ما كان يفضل أسلوب الضرب لإنهاء أي مشكلة عائلية، وهذا كله، كما تعتقد نياز، تسبب في النهاية بدفعها إلى حرق نفسها خلاصاً من تلك الحياة القاسية.

الزواج المبكر

تعتقد الباحثة سوسن قادر، أن الزواج المبكر وما يتبعه من تداعيات، هو من أبرز المشاكل التي تفضي إلى الانتحار حرقاً، وتشير قادر في هذا الصدد إلى تقارير محلية بيّنت أن أكثر من 70 في المئة من حالات الانتحار ترتبط بالزواج بالإكراه أو عدم التفاهم مع الزوج.

الزواج مبكراً كما تقول قادر، يعرض المرأة لمواجهة ضغوطات الحياة القاسية في سن مبكرة، وفي حال عجزت الزوجة الصغيرة عن تحمل ضغوط أمّ الزوج أو أخواته أو باقي أفراد العائلة، فقد تلجأ إلى الانتحار حرقاً كحلٍّ أخير.

أحرقت شيرين ذات الـ18 عاماً نفسها بعد أن عجزت عن إيجاد طريقة للتفاهم مع زوجها الذي تزوجته بالاكراه، تقول شيرين إنها كانت تعيش معه قبل أن تحاول الانتحار حرقاً «جحيماً لا يطاق». لكن يبدو أن قدرها هو أن تعود إلى هذا الجحيم مجدداً بجسد مشوه، ونقمة من الزوج والأهل، ونظرة ازدراء من مجتمع لا يرحم.

حب... وخيانة

تحاشت عائلة نازلين التي لم تكمل عامها الـ17 بعد، طوال يومين كاملين، الحديث عن أية تفاصيل حول «حادثة» احتراق ابنتهم التي كانت تتلوى ألماً على سرير موتها المرتقب. واكتفت والدتها التي منعت كاتبي التحقيق من الاقتراب من سرير نازلين في شكل قطعي، بالقول إن الحادثة كانت «قضاء وقدراً»، وإن كل ما في الأمر أن نازلين لم تحسن التعامل مع تنّور الخبز فاحترقت بالنار.

ضابط التحقيق اكتفى بتسجيل رواية والدة نازلين وغادر المستشفى. من دون أن تتمكن صديقتها «روناهي» من البوح بالسبـــب الحقيقي لانتحارها حرقاً، فقد كانت نازلين «ناقمة على العائلة لأنها لم توافق على زواجها بحبيبها الذي تقدم لخطبتها».

قصة أخرى ترويها لنا ابنة عم الفتاة المنتحرة سوز، فعلى رغم مرور 11 عاماً على انتحارها، ما زالت قصة سوز مطبوعة في ذاكرة كل من أحاط بها. سوز أحرقت نفسها بالقرب من بيت حبيبها بعد أن تخلى عنها وتزوج بفتاة أخرى.

النتيجة نفسها تقريباً كانت حصيلة قصص أخرى تابعتها الباحثة الاجتماعية شيلان دوسكي، فقصة العشق البريئة بين نرمين وحبيبها تسببت بغضب الأهل وقادتهم إلى تزويجها قسراً بأحد رجال العشيرة.

قبل حفل الزفاف بيوم واحد أحرقت نرمين نفسها للخلاص من الزواج القسري، لكـــن أهل العريس طالبوا برد «الاعتبار» ومـــراعاة المبالغ التي صرفوهــــا في تجهيز مستلــزمات الزفاف. القضية انتهت بتسوية عائلية دفعـــت أخت نرمين ثمنها حين اضطرت للموافقة على الزواج بالقريب.

كازين ذات الـ30 عاماً، كانت ضحية أخرى لظاهرة الانتحار حرقاً، ولكن هذه المرة بطريقة مغايرة تماماً، فكازين التي تزوجت من طريق (المبادلة) تحولت حياتها إلى جحيم بعد أن أقدمت زوجة أخيها (بديلتها) على الانتحار حرقاً.

حتى الآن تتعرض كازين، كما تقول دوسكي، لأشكال متعددة من الإذلال والإهانات من قبل زوجها وعائلته وصلت في إحدى المرات إلى تعرضها لكسور نتيجة الضرب العنيف من قبل الزوج.

تشير الباحثة دوسكي إلى أن بعض الحالات التي تابعتها، ارتبطت على نحو كبير بالغيرة أو الشكوك المتعلقة بعلاقات الزوج خارج إطار العلاقة الزوجية أو السعي للزواج بامراة أخرى، فأميرة التي حاولت الانتحار حرقاً بعد أن اعتقدت أن زوجها يسعى للزواج بإحدى قريباته، خرجت من المستشفى بجسد مشوه وصلت نسبة الحروق فيه إلى نحو 66 في المئة.

تمايز طبقي

يعتقد الباحث سعد بازياني أن اعتبار الفقر من العوامل الرئيسة لاتساع ظاهرة الانتحار حرقاً، هو افتراض «غير موفق» ولا يمكن الركون إليه. فوفقاً لإحصاءات وزارة التخطيط هناك معدل فقر لا يتجاوز 3 في المئة في مدينتي أربيل والسليمانية، تقابله معدلات فقر تصل إلى 49 في المئة في محافظة المثنى و40 في المئة في ديالى و37 في المئة في ميسان و34 في المئة في كل من مدينتي الناصرية والبصرة أقصى جنوب العراق.

قياساً إلى هذه الأرقام، كما يرى بازياني، يكون من المنطقي أن تنتحر 10 نساء جنوبيات مقابل كل امراة كردستانية تنتحر حرقاً، لكن الواقع يشير إلى أن حوادث احتراق متفرقة تحصل خلال العام الواحد في عموم محافظات العراق التي يناهز تعدادها الـ28 مليون مواطن، مقابل نحو 450 حالة انتحار حرقاً في كردستان العراق التي لا يتجاوز عدد سكانها 5 ملايين مواطن.

يقدم الباحث بازياني افتراضاً يعتقد أنه يفسر العلاقة بين الأوضاع الاقتصادية وظاهرة الانتحار حرقاً، مفادها أن التمايز الطبقي الذي ارتفع في شكل لافت خلال العقد الأخير في كردستان، هو ما ساهم في ارتفاع معدلات الانتحار حرقاً وليس الفقر الذي بدأ بالانحسار في عموم مدن كردستان في شكل ملحوظ.

يؤيد موظف حكومي انتحرت زوجته حرقاً قبل نحو ستة أشهر، ما ذهب إليه الباحث بازياني. كاميران الذي يتسلم راتباً شهريا يناهز المليون دينار (850 دولاراً)، خسر زوجته كيشان بسبب عجزه حتى بعد أن حصل على عمل ليلي كسائق سيارة أجرة، عن توفير المزيد من المال الذي تنفقه زوجته غالباً في شراء الملابس والكماليات، سعياً منها لمجاراة أخواتها المتزوجات بأشخاص ميسوري الحال يعملون في التجارة إضافة إلى عملهم في المؤسسات الحكومية والحزبية.

غسل العار

غالباً ما كانت حوادث الانتحار المرتبطة بقضايا غسل العار تأتي ضمن حديث هامس مع كاتبي التحقيق، لكن وثائق التحقيق تخلو تماماً من أية إشارة من هذا النوع.

تشكك الباحثة قادر، في أن يكون ارتفاع معدلات الانتحار حرقاً مرتبطاً بـ «دوافع متعلقة بغسل العار». فالعائلة الكردستانية «لا تتردد في قتل ابنتها إذا ما تورطت بأي قضية تتعلق بالشرف، حتى قبل أن تفكر الفتاة نفسها بالانتحار».

تورد قادر للدلالة على كلامها قصة فتاة كردية قتلها والدها في إحدى المناطق الواقعة جنوب مدينة أربيل قبل نحو عامين، بعد أن لمحها وهي تتبادل الإشارات مع أحد أبناء الجيران. الأب الذي «هشم» رأس ابنته بقطعة كبيرة من الحجر، لم يتردد في تسليم نفسه للشرطة على أساس أن القضية «قضية شرف».

أحد المحققين العدليين يقدم فرضية تناقض ما ذهبت إليه قادر، فالكثير من حالات الانتحار حرقاً كما يرى المحقق كانت في حقيقتها «عمليات قتل متعلقة بقضايا الشرف» يعمد فيها الجناة إلى إخفاء معالم الجريمة بحرق جثة الضحية والادعاء بأنها أحرقت نفسها بنفسها.

المحقق يقول إن لجوء العائلة إلى هذه الطريقة سببه سهولة تشديد الأحكام خلال السنوات القليلة الماضية فيما يتعلق بقضايا غسل العار، فضلاً عن إمكانية تمرير قصص الانتحار حرقاً على السلطات المختصة لتجنب الوقوع تحت طائلة القانون.

في حالات وثقها الباحث سليمان طه، كانت الفتاة المتورطة بقضايا الشرف تجبر من قبل العائلة على حرق نفسها، كما في حالة الفتاة سهاد التي ارتبطت بعلاقة غير شرعية مع ابن الجيران نتج عنها حالة حمل، فخيرتها والدتها بين إبلاغ إخوتها ليغسلوا عارهم بأيديهم، أو أن تنفذ سهاد العملية بيدها هي.

أحرقت سهاد نفسها داخل حمام المنزل، تنفيذاً لرغبة والدتها التي سلمتها قنينة النفط الأبيض وعلبة الكبريت بنفسها قبل أن تغادر في زيارة سريعة لمنزل الجيران. الباحث طه الذي وثق هذه القصة من طريق بعض أقارب الضحية قال إن السلطات ثبتت في محاضرها أن مقتل سهاد هو «احتراق بحادث عرضي».

لكن مديرة وقف العنف ضد المرأة، كورده عمر، تنفي أن يكون المحققون في قضايا الانتحار حرقاً يتعمدون إغفال أية دلائل تشير إلى أن الانتحار مرتبط بقضايا الشرف، لكنها تقر بأن الأرقام التي سجلتها المديرية لقضايا غسل العار «انخفضت كثيراً خلال السنوات الماضية مقارنة بحالات الانتحار حرقاً التي ارتفعت خلال الفترة نفسها».

الشرطة والقضاء و الحكومة

يقف القضاء عاجزاً منذ سنوات، كما يقول الباحث طه، أمام قضايا الانتحار حرقاً. السبب أن القضاء يشترط وجود مشتكين للبدء باتخاذ الإجراءات. وفي القضايا التي تكون فيها العائلة هي المتسببة بالجريمة أو المتعرضة للأذى الاجتماعي من عرض القضية أمام المحكمة كما في حالات الانتحار حرقاً، فسيكون من المستحيل متابعة قضايا شائكة من هذا النوع.

في أغلب حالات الانتحار تتوفى الضحية، أو تتعرض للتشوه الجسدي ولا يمكنها المجازفة بتقديم قضية سيكون من الصعب أن تربحها أمام المحاكم.

يعزو طه هذا إلى ضعف القوانين وسوء تطبيق المتوافر منها في ما يتعلق بحماية المرأة، في مجتمع محافظ مثل مجتمع كردستان العراق.

المحامي حسن فاروق يطرح سؤالاً عما يمكن أن يقوم به القضاء في قضايا الانتحار حرقاً إذا لم يكن هناك مشتك أصلاً؟ يعترف فاروق بأن إثبات حقيقة وجود ضغوط نفسية تسببت بدفع المجني عليها إلى الانتحار، أصعب بكثير من إثبات الأدلة الجرمية في قضايا القتل الجنائي، أو قضايا غسل العار التي تنفذ على يد شخص قد لا يتوانى عن الاعتراف علناً بأنه ارتكب الجريمة لغسل عار العائلة.

تموت والحقيقة معها

يقر أحد قضاة محكمة مدينة أربيل بصعوبة التعامل مع قضايا الانتحار حرقاً، لما تحمله من حساسية عالية في مجتمع محافظ. فغالباً ما تراعي المحكمة مشاعر العائلة والحفاظ على أسرارها لحمايتها من التعرض للاستهانة بها أو النظر إليها بصورة سلبية. مع هذا، يؤكد القاضي الذي فضل عدم الكشف عن هويته أن القضاة يبذلون أقصى درجات الجدية في تتبع الأدلة والبراهين في حال كان تعاون المشتكين في كشف الحقائق. فلو ذكرت الفتاة التي حاولت الانتحار أن شخصاً مارس عليها ضغوطاً نفسية أو جسدية لدفعها لتنفيذ عملية الانتحار، سيكون في وسع المحكمة أن تطبق المادة 408 من قانون العقوبات العراقي الذي ينص على معاقبة كل من يتسبب أو يحرض شخصاً على الانتحار، بالسجن من يوم واحد إلى سبع سنوات.

عجز حكومي

تقول مديرة وقف العنف ضد المرأة، كورده عمر، أن الجهات الحكومية المختصة بالعنف ضد المرأة، أدت دوراً جيداً في التعامل مع ظاهرة الانتحار حرقاً من خلال برامج التوعية وافتتاح الدورات التطويرية وعقد المؤتمرات والندوات. وهي الوسائل المتاحة حالياً لمحاولة خفض نسبة الانتحار حرقاً.

لكن وزيرة العمل والشؤون الاجتماعية في كردستان آسوس نجيب تعتقد أن الاقتصار على إقامة الندوات لن يجدي نفعاً، في ظل تعرض المرأة للعنف وربما تعرضها للقتل جراء أبسط الأسباب.

تقول نجيب إن وزارتها «جادة في اتخاذ خطوات عملية خلال الفترة المقبلة وتقديم مشاريع فعلية تخدم مسيرة المرأة في المجتمع». من دون أن تذكر شيئاً عن هذه المشاريع.

لكن جميل شنكالي، وهو ناشط مدني يتابع قضايا الانتحار حرقاً منذ سنوات، لا يبدو متفائلاً بأي إجراءات تقتصر على إقامة ورش أو ندوات عابرة لأنها بالتأكيد «ستكون بعيدة عن جوهر المأساة».

شنكالي يعتقد أن القوانين المتعلقة بالعنف ضد المرأة ومعها كل الورش والندوات التي تناقش ظاهرة الانتحار حرقاً، لا يمكن لها أن تساهم في الحد من الظاهرة إذا بقيت الثقافة العشائرية المحافظة هي الثقافة السائدة في كردستان العراق، وإذا كانت السلطات تتجنب تطبيق القوانين التي تحمي المرأة حرصاً على عدم استعداء القوى العشائرية في المجتمع الكردي.

خلال تفقدهما ردهات مستشفى أربيل بحثاً عن ضحية احتراق جديدة، شاهد كاتبا التحقيق جثة الفتاة المنتحرة نازلين وهي تأخذ طريقها إلى مقبرة المدينة، لتصبح رقماً جديداً يضاف إلى سلسلة قضايا «القضاء والقدر» التي لا تكاد تنتهي في كردستان العراق.

* أنجز هذا التحقيق بالتعاون مع المنتدى الاستقصائي العراقي (نايريج)، وأشرف عليه محمد الربيعي.
رایکم