شبکة تابناک الأخبارية: جاءت زيارة الرئيس الإيراني أحمد نجاد إلى لبنان لتؤكد أن هناك تحولات إستراتيجية تجري في منطقة الشرق الأوسط تتبدل معها موازين القوى وأدوار دول المنطقة.
ربما يمكن القول أن هذه التغييرات بدأت فعليا مع وقوع عدد من التطورات المهمة خلال العقود الثلاثة الماضية أبرزها قيام الثورة الإسلامية في طهران واتجاه الدول العربية للصلح مع إسرائيل بدءا بأكبر دولة عربية وهي مصر.
لكن نقطة التغير الحاسمة تمثلت في نتائج الحرب العدوانية التي شنتها إسرائيل على حزب الله في العام 2006 حيث تلقت العسكرية الإسرائيلية ضربة قوية على أيدي حزب الله اللبناني قضت على الدور الإسرائيلي في المنطقة أو بمعنى أكثر وضوحا قضت على " الزمن الإسرائيلي الأميركي" الذي نشأ عقب حرب العام 1967 وترسخ بعد اتفاقيات كامب ديفيد ثم حرب الخليج الثانية عام 1991 ووصل إلى ذروته مع سقوط بغداد في العام 2003.
لقد كانت حرب العام 1967 بمثابة الانقلاب الإقليمي من نظام كان للعرب بقيادة القاهرة الكلمة الأولى فيه إلى نظام أصبح لإسرائيل ومن خلفها الولايات المتحدة كلمة الفصل فيه. وكان من نتيجة ذلك تغير النظرة الحاكمة للصراع في المنطقة وترتيبا وسائل وأدوات هذا الصراع.
قبل هذه الحرب كان الصراع يدور حول قوة احتلال صهيونية لأرض عربية تسعى الدول العربية إلى طردها كما استطاعت طرد غيرها من قوى الاحتلال الغربي للمنطقة وكانت وسائل وأدوات الصراع يغلب عليها الطابع العسكري .. لكن بعد الحرب تغيرت النظرة فأصبح الصراع يدور بين عدة دول على أراض محتلة كما ورد في سياق القرار 242 الذي قبلت به القاهرة وهو ما كان يعني الاعتراف بإسرائيل وترتيبا بالدور الإسرائيلي في المنطقة.
ورغم أن العرب بقيادة مصر وسوريا شنوا حرب تحرير في العام 1973 إلا أنها لم تكن أكثر من مجرد وسيلة لتحسين موقفهم في الزمن "الإسرائيلي" الجديد .. وليس أدل على ذلك من أن النصر الذي تحقق خلالها بدل أن يكون وسيلة لاستعادة اللحمة العربية مرة أخرى وترتيبا استعادة "الزمن العربي" تحولت إلى وسيلة لترسيخ "الزمن الإسرائيلي" واستمرار بل وتفاقم الانقسام العربي عبر توقيع مصر لاتفاق مع إسرائيل يلغي نتائج هذه الحرب حتى لجهة وضع أفضل للعرب في ظل هذا الزمن الإسرائيلي.
في هذه الأثناء التي كانت فيها مصر والعرب يدخلون إلى الزمن الإسرائيلي الجديد كانت إيران تخرج منه بعد قيام الثورة الإسلامية التي قضت على الشاه الذي كان نصير إسرائيل الأول وشرطي الولايات المتحدة في المنطقة.
حاولت إسرائيل ومن ورائها الولايات المتحدة إشغال المتمرد الإيراني بالحرب مع العراق التي استمرت لحوالي ثماني سنوات بفضل المخططات الإسرائيلية والأميركية لإشعالها حتى خبت نيرانها .. عند ذلك كانت الخطط جاهزة لاحتواء هذا المتمرد عبر التهديد المباشر له فكانت حرب الخليج الثانية التي أسست لتواجد عسكري أميركي وغربي دائم في المنطقة.
لم يكن التواجد العسكري الأميركي والغربي في المنطقة الحامي للزمن الإسرائيلي يستهدف العراق المنفذ لأوامر الغرب والحامي لمصالحه بقدر ما كان يستهدف ذلك المتمرد الذي يريد إحداث انقلاب ضد هذا الزمن ومنظومة العلاقات التي نشأت في ظلاله .. لكن لأن إيران الإسلامية تختلف عن العرب فقد استطاعت أن تستفيد من أخطاء الغرب في التحول من مرحلة الدفاع إلى مرحلة الهجوم على مقومات الزمن الإسرائيلي وتوسيع نفوذها في الإقليم تدريجيا.
ومع بداية القرن الحادي والعشرين، أراد المحافظون الجدد الذين حكموا واشنطن أن يحكموا سيطرتهم على العالم لإبقاء هذا القرن أميركيا كما كان القرن العشرين أميركيا. وكانت نقطة البداية بالنسبة لهم منطقة الشرق الأوسط باعتبارها أضعف حلقات السلسلة المكونة لأقاليم العالم وأهمها لناحية احتوائها على عصب الحياة وقاطرة الحضارة والتقدم ومن ثم القوة والهيمنة.. فجاءت أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001 التي اتهم فيها مواطنون عرب لتأتي جيوش الولايات المتحدة وحلفاءها لاحتلال الحلقة الأضعف في سلسلة الإقليم وهو العراق ليكون نقطة البدء في إعادة رسم الخريطة الجيوسياسية للمنطقة .. والهدف الأول كان إيران ذلك المتمرد الذي يرفض الزمن "الإسرائيلي الأميركي" بل ويهاجمه أملا في إحداث انقلاب يمكنه من القضاء عليه وبدء زمن جديد يكون "إيرانيا" خالصا.
جاءت نتائج الهجمة الجديدة للولايات المتحدة وإسرائيل في غير صالح الزمن الإسرائيلي حيث تم القضاء على أعداء إيران في المنطقة وأبرزهم نظام الرئيس العراقي صدام حسين ونظام طالبان في أفغانستان .. وحينما تنبهت واشنطن وتل أبيب لذلك كانت إيران قد تمكنت من عنق واشنطن عبر سيطرة حلفاءها على نظام الحكم في العراق، وعنق تل أبيب عبر حلفاءها في لبنان "حزب الله" وفلسطين "حماس".
هنا كان لا بد من البحث عن حبل يتم تطويق عنق طهران به لخنقها في الوقت الملائم فجاءت قصة الكشف عن البرنامج النووي الإيراني .. ذلك البرنامج الذي كان معروفا للولايات المتحدة لأنها كانت مشرفة عليه أيام الشاه.
ومرة أخرى لأن إيران تختلف عن العرب فقد استخدمت هذا الحبل لتطوق به عنق واشنطن وتل أبيب للقضاء على ما تبقى من الزمن الإسرائيلي الأميركي .. وقد استطاعت تحقيق ذلك حينما وقعت واشنطن في الخطأ القاتل عندما دفعت تل أبيب لتشن حربها العدوانية على حزب الله حليف إيران في لبنان في العام 2006.
بعدها تغير كل شيء .. أصدرت المخابرات الأميركية تقريرها في العام 2007 الذي أكد أن طهران لا تملك برنامجا نوويا عسكريا .. تغيرت القيادة في واشنطن بعد أن أدركت النخبة الحاكمة هناك أن كل خططها للإبقاء على الزمن الإسرائيلي الأميركي قد فشلت وأنها يجب أن تعمل الآن على الدخول في مفاوضات حقيقية مع طهران من أجل تحسين موقفها في الزمن الإيراني الآتي لا ريب.
هنا يمكن فهم أسباب القبول الغربي والإسرائيلي بإيران النووية. وهنا أيضا يمكن فهم أسباب الانغماس التركي في شئون المنطقة بشكل كثيف حيث تريد أنقرة التي فشلت في الالتحاق بالفضاء الأوروبي طوال أكثر من نصف قرن، أن تجد لنفسها مكانا في الزمن الجديد الآخذ في التشكل والذي لا تريد أن يكون زمنا إيرانيا خالصا.
*مركز النخبة للدراسات - القاهرة