شهد العراق في سبعينيات القرن الماضي طفرة اقتصادية هائلة جعلته من أقوى اقتصاديات المنطقة، وحقق معدلات نمو عالية وغير متوقعة، وأصبحت الخزانة العراقية متخمة بعشرات المليارات من الدولارات من عائدات النفط، حتى دخل العراق أو أُدْخِلَ (ليس هذا مبحثنا) في حروب عبثية، استمرت أولاها لثماني سنوات ضد إیران (1980 - 1988)، فكانت أطول حرب في القرن العشرين وأحد أكثر الصراعات دموية، حيث خلفت أكثر من مليون قتيل من طرفي الصراع، وألحقت أضراراً بالغة باقتصاد البلدين، وابتلعت فائض ميزانية العراق والدخل القومي، فأصبح العراق مفلساً ومثقلاً بالديون، فضلاً عن الآثار التي تعرض لها النسيج العراقي، وتلتها مغامرة غزو الكويت أو حرب الخليج (الفارسي) الثانية، التي مثلت ضربة قاصمة للتضامن بين الدول والشعوب العربية، وأعقبها حصار تجاوز العقد من الزمان، ما أدى إلى مزيد من التدهور الاقتصادي، ترافق مع ارتفاع معدلات البطالة، وتزايد معدلات الفقر، فتحول الوضع المعيشي إلى مزرٍ (حسب تعبير الأمم المتحدة)، ما أوقع بأوضاع كارثية على النسيج الاجتماعي العراقي، وتحول العراق من بلد جاذب للعمالة إلى طارد لأهله، حتى إن عديداً من العراقيين ذوي المستويات التعليمية العالية مثل الأطباء والمهندسين والمعلمين اضطروا إلى الهجرة خارج البلاد أو العمل في مهن وحرف مختلفة مثل بيع السجائر أو قيادة سيارات الأجرة أو العمل كحراس أمن بأجور زهيدة...
ثم جاء الغزو الأميركي ليمثل وبحق ثالثة الأثافي، فقد قضى على البقية الباقية من العراق، ولم يترك حجراً على حجر، ونقل العراق إلى مصاف الدول الفاشلة، حيث يستشري الفساد ويغيب الأمن، ويتزايد الفقر، وتنتشر الفتن بين الإثنيات والأعراق.
فغدا العراق موطناً للألم، ومبعثاً للشفقة، ومثيراً للحزن، من هنا تأتي أهمية الزيارة غير المسبوقة من بابا الفاتيكان إلى العراق، التي جاءت وسط مخاطر أمنية، ومخاوف صحية جراء تفشي فيروس كورونا، ومثلت الزيارة في رأي البعض رسالة تضامن مع المسيحيين ودعم لهم، بعدما تعرضوا لحملات كراهية وتخويف جعلت مئات الآلاف منهم يغادرون العراق إلى بلدان غربية بعد ترغيب وترحيب من قبل المسؤولين في تلك البلدان، واعتبرها البعض - وفي مقدمتهم شيخ الجامع الأزهر - "زيارة تاريخية وشجاعة... تحمل رسالة سلام وتضامن ودعم لكل الشعب العراقي"، وهذا ما جعل بعض المحللين يرون أن الزيارة تمثل ترجمة عملية لوثيقة الأخوة الإنسانية التي سبق أن وقعها الحبر الأعظم مع الإمام الأكبر في عام 2019 في مدينة أبوظبي.
ولا يمكننا ونحن نتحدث عن الزيارة أن نغفل استقبال المرجع الأعلى في العراق السيد علي السيستاني للبابا في مدينة النجف، التي بعثت برسائل عديدة لقوى محلية ولدول في الإقليم.
وظني أن تلبية الإمام الأكبر شيخ الأزهر لدعوة رئيس مجلس النواب العراقي لزيارة العراق، يمكن أن تمثل في أحد جوانبها استكمالاً لزيارة الحبر الأعظم، وخطوة مهمة في اتجاه دعم ثقافة الاعتدال والوسطية، ومجابهة دعوات التحريض على العنف وخطاب الكراهية والتطرف، ما يسهم في هزيمة الطائفية البغيضة وتعافي العراق من معاناته جراء الحروب العبثية.
* صحفي مصري
المصدر: ترکیا الآن