القسم الدولي لموقع "تابناك": سواء جرى الاتفاق اليوم أو غدا بين المقاومة الفلسطينية بمختلف فصائلها والكيان الصهيوني، فإنه بكل المقاييس سيكون اتفاقا يُتوِّج معركة “طوفان الأقصى” بالنّصر المبين، ويرفع عاليا تضحيات الشهداء وأبطال المقاومة على كافة المستويات، ويزيد رفعة الشعب الفلسطيني بكل شرائحه. هل تم القضاء على حركة المقاومة إنْ في غزة أو في الضّفة الغربية؟ هل تم تهجير الفلسطينيين من أرضهم مرة أخرى؟ هل رفعوا راية الاستسلام؟ لم يحدث ذلك أبدا… إلى آخر يوم والمقاومة تَخرج من بين ركام البيوت المُهدَّمة بالقصف، لِتَفتِك بالأعداء، تاركة إياهم بين قتيل وجريح، مُستخدِمة أحيانا أسلحتهم والذخائر التي قذفوا بها الأبرياء ولم تنفجر.
وإلى آخر يوم والشعب الفلسطيني بأطفاله ونسائه وشيوخه صامدا محتسبا أمره لله تعالى رغم الإبادة الشاملة والتدمير بمختلف صوره وأشكاله، والتجويع المُمَنهَج، والحرمان حتى من الماء والدواء، بقِيَ رافضا تسليم أرضه للأعداء مُستعدا للعيش بين ركام بيوته حُرًّا كريما على أن يستسلم أو يخون، وإلى آخر يوم بقي المقاوم الفلسطيني صامدا بالحد الأدنى من الوسائل التي يملك يواجه الاحتلال ودبَّاباته وطائراته بملاحم بطولية قَلَّ مثيلها عبر التاريخ. وإلى آخر يوم من هذه الملحمة مازلنا نشاهد كيف تتزايد خسائر العدو في العتاد والعُدّة، ولولا الدعم الذي يتلقاه بجميع أنواع الأسلحة وبخاصة سلاح الجو الأمريكي لَمَا تمكَّن من البقاء في القطاع أياما، ولما استطاع إحداث كل هذا التدمير وهذه الإبادة به. والأهم من كل ذلك، بعد كل هذه الفترة من الحرب والقتال، أن هذا العدو لم يتمكن من تقديم الإجابة عن السؤال المركزي الذي ما فتئ يطرحه كل المتابعين لِما يحدث: وماذا بعد العدوان على غزة؟ وكيف سيكون اليوم التالي؟
كل الإجابات تقول إن هذا اليوم التالي لن يكون صهيونيا بكل المقاييس ولن يقبل الشعب الفلسطيني بعد كل هذه التضحيات أن يحكمه غير أبنائه، وأن أي سلطة يريد الاحتلال فرضها أو التفاوض بشأن إقامتها في القطاع أو ممثِّلة للشعب الفلسطيني لن تكون شرعية إذا لم تحظ بتزكية الشعب الفلسطيني، ولن تحظ بهذه التزكية إذا كانت نقيضة للمقاومة أو غير منسجمة مع مبادئها. وهنا يكمن الفشل الحقيقي للمشروع الصهيوني: حتى في حالة ادعائه الانتصار العسكري أو تحقيق السلم الظالم فإنه سياسيا غير منتصر، ذلك أنه إذا كان لا يستطيع إيجاد بديل شرعي لحركة حماس، ولا يستطيع القضاء عليها، فإنه سيضطر إلى المغادرة نهائيا والاعتراف بلا شرعية وجوده وباحتلاله وبالحق الشرعي والتاريخي والقانوني للفلسطينيين على أرضهم، وبأن اليوم التالي لمعركة طوفان الأقصى سيكون فيه عيد النصر.
لقد وقعت الولايات المتحدة الأمريكية في ذات الخطأ وعرفت ذات السيناريو في أفغانستان مثلا، وها هي تُكرِّره اليوم في فلسطين من خلال عملائها. هل تَمكَّنت من إيجاد حكومة شرعية في أفغانستان رغم غزوها لهذه الدولة واحتلالها لمدة أزيد من 20 سنة؟ لم تستطع ذلك وفي آخر المطاف خرجت تجر أذيال الخيبة. وذاك هو مصير كل محتل ظالم عبر التاريخ. لذلك فاليوم هو يوم نصر فلسطيني، مهما قيل عن التضحيات والخسائر، ومهما قيل عن السلم المفروض! وكذلك كانت الشعوب تنتصر على ظالميها في آخر المطاف… كم دفعت الجزائر من شهداء لأجل حريتها؟ الملايين بكل تأكيد… كم دفعت شعوب أخرى مستعمَرة لأجل حريتها؟ الملايين بكل تأكيد… وها هو اليوم الشعب الفلسطيني يدفع الثمن وينتصر، سُنَّة كونية وإلهية ما فتئت تتأكد كل يوم، وها هي بشائرها تلوح في الأفق في فلسطين، فليفرح الشعب الفلسطيني بشهدائه وبِنصره.
"طوفان الأقصى" لم يكن طفرة عسكرية
شهدت الأيام الأخيرة تصاعدا دراماتيكيا في الأحداث الميدانية في قطاع غزة، وعلى مائدة المفاوضات، سعيا لنهاية مرحلية لمعركة طوفان الأقصى، والأخيرة شكلت تحولا استراتيجيا في مسار الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي، بعد أشهر طويلة من القتال العنيف؛ فالساعات الماضية كانت حبلى بالكثير من البوادر الإيجابية لنهاية هذه المواجهة الدموية، التي أظهرت القوة العظمى لإرادة الشعب الفلسطيني في الدفاع عن حقوقه وأرضه. "طوفان الأقصى" يمثل لحظة فارقة في التاريخ الحديث للمنطقة، كما فتح الباب واسعا أمام تساؤلات عميقة بشأن مستقبل "إسرائيل"، وفيما يبدو فإن الصراع المستمر في الأراضي الفلسطينية دخل مرحلة جديدة قد تحمل في طياتها مفاجآت وتحولات في المشهد السياسي والعسكري، سواء على الصعيد الفلسطيني أو الإسرائيلي، بل وعلى مستوى المنطقة بأسرها.
"طوفان الأقصى" لم يكن طفرة عسكرية، بل جاء كنتيجة حتمية في سياق تصاعد الاعتداءات الإسرائيلية على المسجد الأقصى، ومقدسات الشعب الفلسطيني في القدس، بالإضافة إلى الحملات العسكرية المتواصلة ضد قطاع غزة. في هذا السياق، قررت فصائل المقاومة في غزة، على رأسها حركة حماس إطلاق عملية عسكرية واسعة النطاق غير مسبوقة في أدواتها وتكتيكاتها من أجل ردع الاحتلال، وتوجيه ضربة قوية قاصمة للجيش الإسرائيلي، وهو ما كان. عندما نتحدث عن "انتصار غزة"، فإننا نتحدث عن صمودٍ أسطوري لشعب غارق في المعاناة والآلام، من حصار مستمر، وعدوان عسكري إسرائيلي متكرر، وخذلانٍ عربي، وتواطؤ غربي، فقطاع غزة -الذي يمثل نحو 1 في المئة من مساحة فلسطين التاريخية- ليس مجرد رقعة جغرافية، بل هو رمزٌ للمقاومة، والإرادة التي لا تلين. على مدار الأشهر الماضية، ارتكب الاحتلال عدوانا شاملا على قطاع غزة، حمل معه دمارا هائلا وآلاما كبيرة على الصعيدين الإنساني والمادي، رغم ذلك، ظل الشعب الفلسطيني في غزة يواجه تلك التحديات بثبات، مما أوجد نوعا من الإصرار على عدم الاستسلام، ما دفع الاحتلال للتراجع خطوتين للخلف. فالشعب الفلسطيني في غزة بمقاتليه وسكانه، أعطى العالم دروسا في الثبات، ومن أن إرادة الشعوب لا يمكن كسرها بسهولة.
إتمام اتفاق وقف إطلاق النار يحمل دلالات هامة على الصعيدين الإقليمي والدولي، فعلى المستوى الإقليمي، تعكس الصفقة قدرة القوى الفلسطينية على تعزيز وحدة الصف في مواجهة التحديات الميدانية والعسكرية، وهي بذلك تفتح الطريق أمام تحركات سياسية جديدة تسهم في الضغط على الاحتلال لتقديم المزيد من التنازلات. إذا كان النصر العسكري لا يتحقق في غزة بالحسم، بالنظر إلى تفاوت القوى العسكرية بين الاحتلال الإسرائيلي والمقاومة الفلسطينية، فإن غزة انتصرت في صمود أهلها وثباتهم على أرضهم، وانتصرت في إرغام الاحتلال على الجلوس على طاولة المفاوضات، وانتصرت بإخفاء عشرات الأسرى الإسرائيليين لخمسة عشر شهرا دون معرفة مصيرهم، رغم الاستعانة بطائرات التجسس الأمريكية والبريطانية على مدار الساعة في رصد تحركاتهم ومعرفة أماكن تواجدهم. وانتصرت غزة حين أكدت المقاومة أنها باقية وتتمدد عكس ما كان يريد الاحتلال، في نهاية الأمر قد يكون السؤال الصحيح ليس "هل انتصرت غزة؟"، بل "متى سينتهي هذا الصراع ويُحقق للشعب الفلسطيني حقوقه المشروعة؟"